سورة الزمر - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الزمر)


        


{تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7)}.
التفسير:
قوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}.
هو جواب عن سؤال أو أسئلة كثيرة، كانت تدور في رءوس المشركين وتجرى على ألسنتهم: من أين جاء محمد بهذا الذي يحدثنا به؟ ومن علّمه هذا؟
ومن أي الكتب أخذه؟ إلى غير ذلك مما كانوا يحدثون به أنفسهم، ويتحدث به بعضهم إلى بعض في شأن القرآن.. وقد جاء في آخر السورة السابقة ص ما يجيب- إجابة غير مباشرة- عن تلك الأسئلة، فقال تعالى على لسان نبيه الكريم: {ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ}.
ثم جاء بعد هذا من آيات اللّه، ما يحدّث عن هذا الاختصام، الأمر الذي يقطع بأن النبىّ على صلة بالملأ الأعلى، حتى يكون له أن يأتى ببعض ما يقع هناك من أمور.
وهنا في قوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} إجابة مباشرة عن تلك الأسئلة التي يسألها المشركون عن المصدر الذي جاء منه القرآن.. وإذ كان سؤالهم أو أسئلتهم، تنحصر في هذا المحتوى: من أين هذا الكتاب؟ فكان الجواب: من اللّه العزيز الحكيم تنزيله.
وقد جاء النظم القرآنى هكذا: {تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} بتقديم الجهة التي نزل منها على الذات التي أنزلته- إشارة إلى أنه صادر من جهة عالية، وأنه ليس مما على هذه الأرض، وما فيها من جهات وذوات.. وبهذا ينعزل القرآن عن أن يكون من العالم الأرضى. إنه نور خالص، لمن نظر فيه، والسماء هى مصدر كل نور على هذه الأرض.. فإذا تقرر ذلك، كان البحث في طبيعة هذا النور، وهل هو نور إلهى، أم من ذلك النور الذي تشعّه الكواكب والنجوم؟ وإمعان النظر في القرآن يكشف للناظر عن أنه نور إلهى، لا ينكسر ضوؤه، ولا تغرب شمسه أبدا.. وإذن فهو نور من اللّه.. {تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}.
قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} أي قد نزل إليك أيها النبي هذا الكتاب من ربك شائبة بالحقّ.. الذي لا يعلق به باطل.. فهو يحمل إليك الحق خالصا من كل شائبة، فمن نظر في آياته، وتدبر في كلماته، عرف طريق الحق واضحا مشرقا.. وإذ كان ذلك هو ما عرفت من آيات اللّه وكلماته من حق، فاعبد اللّه على هذه المعرفة، عبادة خالصة، تملأ القلب، وتملك المشاعر، وتستولى على الوجدان.. فلا ترى غير اللّه الحق.
وإذ كان اللّه سبحانه، هو الحق، وما سواه- بالإضافة إليه- باطل، فكل ولاء لغيره، باطل، وكل تعبّد لسواه، ضلال.. فالعبودية الخالصة له وحده سبحانه وتعالى.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى.. إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.. إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ}.
أي وأما الذين لم يخلصوا عبوديتهم للّه لم يجعلوا ولاءهم خالصا له. واتخذوا من دونه أولياء، قائلين: ما نعبدهم إلا لنتقرب بهم إلى اللّه، ونزلف بهم إلى مرضاته- هؤلاء سيحكم اللّه بينهم يوم القيامة، فيما هم فيه يختلفون من أمر اللّه، وفى وتصورهم الباطل لذاته، وجعل معبوداتهم شفعاء لهم عند اللّه، لأنهم- كما يزعمون- أبناؤه، أو بناته، أو شركاء له في الخلق والتصريف! وفى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ} حكم على مدّعيات هؤلاء المشركين، بأنها من ملفقات الأكاذيب، وأن الكفر هو صفة من يدين بهذا الإفك، ويقيم معتقده على هذه الأكاذيب، وأن من سلك هذا الطريق، ولم يراجع نفسه، ويصحح معتقده، فإن للّه سيخلى بينه وبين الضلال الذي هو فيه، فلن يهتدى أبدا.
قوله تعالى: {لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ.. سُبْحانَهُ، هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ}.
أي لو أراد اللّه سبحانه أن يتخذ له ولدا- كما يزعم هؤلاء الضالون- لاختاره هو سبحانه، ولخلقه على ما يشاء، لا أن يختاره له هؤلاء الضالون، كما يقول سبحانه عنهم: {وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [100: الأنعام].
وقوله تعالى: {سُبْحانَهُ.. هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ} تنزيه للّه عن أن يكون له ولد.. فهو سبحانه {الواحد} الذي لا شريك له.. والولد شريك للوالد، وهو سبحانه {القهار} أي القوى الذي لا يغلب.. فليس به إلى الولد حاجة، مما يبغيه الوالدون من الأولاد.
قوله تعالى: {خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ.. يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ.. كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى.. أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ}.
ذلك هو بعض سلطان اللّه، وتلك هى بعض قدرته.. فالسموات والأرض صنعة يده.. وبعض خلقه.. وقد خلقهما سبحانه بالحق، الذي هو صفته.
وقوله تعالى {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ}.
يشير إلى أمور:
أولها: أن النهار والليل يكوّر كل منهما على الآخر، في حركة دائبة.
حيث لا يكون نهار إلا كور عليه الليل، ولا يكون ليل إلا كور عليه النهار.
وثانيهما: أن التكوير يعنى الحجب والتغطية من الأعلى للأسفل، إذ أن أصله من تكوير العمامة على الرأس.. يقال كر العمامة، وكورها، أي لفها على رأسه، حتى صارت مثل الكرة.
وثالثها: أن هذه الصورة من التكوير، تشير إلى كروية الأرض، وإلى أن الليل والنهار يتحركان فوق كرة، أشبه بالعمامة التي تعلو الرأس.
ورابعها: أن لفظ {يكور} يشير إلى أن الأرض متحركة، وأن هذا التكوير الذي يجرى على الكرة، إنما يقع حالا بعد حال، ووقتا بعد وقت.
وخامسها: تقديم تكوير الليل على النهار، إشارة إلى اتجاه حركة الأرض، بعد لإشارة إلى شكلها الكروي وإلى حركتها- فإن هذه الحركة من الغرب إلى الشرق، حيث يكون النهار أولا، ثم يتلوه الليل فيتكور عليه، ثم يعقبه النهار، فيعلوه متكورا عليه كذلك.. وهكذا.
قوله تعالى: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى}.
أي وأجرى الشمس والقمر، وسخرهما بقدرته، وأقامهما على نظام محكم لا يخرجان عنه.. فلكلّ فلكه الذي يجرى فيه.. لا يتعداه.
وقوله تعالى: {أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ}.
إشارة إلى عزّة اللّه وقوته، وأنه القهّار الذي يخضع كل موجود لسلطانه.. ومن كان هذا شأنه فإن نسبة الولد إليه ضلال مبين، وسفه جهول.. لأن الولد إنما يسدّ نقصا، ويشبع رغبة، ويرضى عاطفة.. وتعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.
واللّه سبحانه وتعالى مع عزّته وقوته، فهو غفار للسيئات، غفور للمذنبين، إذا هم تابوا إلى اللّه، واستغفروا لذنوبهم! {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [135 آل عمران].
قوله تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ.. يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ. ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} هو كشف لوجه آخر من وجوه قدرة اللّه سبحانه.. تلك القدرة المتمكنة من كل شىء، المتصرفة في كل شىء، المستغنية عن كل شىء.
ومن دلائل تلك القدرة خلق الناس جميعا من نفس واحدة، أي طبيعة واحدة، أو جرثومة واحدة، هى الجرثومة الأولى التي تخلّق منها الكائن الحىّ.
وفى قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها}.
إشارة إلى أمرين:
أولهما: أن الجعل غير الخلق. فالخلق إيجاد للمخلوق، والجعل، إظهار لما في المخلوق من خصائص، وإبراز ما اشتمل عليه من صفات.. وهذا مثل قوله تعالى: {وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها}.
وهذا يعنى أن الجرثومة الأولى للحياة، كانت ذكرا وأنثى معا.. ثم حصل التوالد بانقسام الكائن الحىّ على نفسه.. كلّ قسم يحوى جرثومة ذكرا وأنثى.. وهكذا تتوالد الخلايا بانقسامها على نفسها.
وثانيهما: أن انفصال الذكر عن الأنثى جاء في مرحلة متأخرة، بمعنى أنه كان بين الخلق والجعل آمادا طويلة، وأزمانا ممتدة، وهذا هو السرّ- واللّه أعلم- في العطف بحرف {ثم} الذي يفيد الامتداد والتراخي في الزمن.
قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ}.
التعبير بالإنزال دون الخلق. إشارة إلى أنها نعم منزلة من عند اللّه.. وأن شأنها في حياة الإنسان عظيم، أشبه بالغيث الذي ينزل من السماء.
والأنعام الثمانية، هى ما أشار إليها سبحانه وتعالى في قوله: {ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ.. قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ، أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا} [143- 144: الأنعام].
فهى أربعة أصناف: الضأن، والمعز، والإبل، والبقر.. وكل صنف منها ذكر وأنثى، فهى ثمانية متزوجة، ذكر وأنثى. كلّ منها زوج للآخر.
وقوله تعالى: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ}.
أي أن هذا التوالد، هو خلق جديد لكل كائن يولد، وليس عملا آنيّا يتم بغير حساب وتقدير.. بل إنه ليس خلقا واحدا، وإنما هو خلق بعد خلق، وأطوار بعد أطوار، يلبسها الكائن إلى آخر مرحلة الخلق، حتى يستوى خلقه ويصبح على الصورة التي قدّر اللّه سبحانه إخراجه عليها.. وهذا الخلق يقع في عالم خفىّ محجّب بحجب ثلاثة، تلفّه في كيانها، واحدا بعد واحد.. هى البطن، فالرّحم، فالمشية التي يغلّف فيها الجنين داخل الرحم!! ففى هذا الكون الضيق المظلم، تجرى عمليات الخلق والتكوين، والتصوير، بيد المبدع، الخلاق العليم! وقوله تعالى: {ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ.. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}.
{ذلكم} إشارة إلى من خلق هذا الخلق وأبدعه، وأخرجه على هذا النظام المحكم.. واللام للبعد، وهى إشارة إلى علو مقام المشار إليه، وهو اللّه سبحانه.. والكاف حرف خطاب للمخلوقين.. فهذا الخالق العظيم، هو اللّه، وهو رب كل مخلوق، خلقا ورزقا، وهو المتفرد بملكية الوجود، وهو- سبحانه- بهذه الصفات، ينبغى أن يكون الإله المتفرد بالألوهة.
{لا إله إلا هو}.
تتجه إليه وحده الوجوه، وتفوض إليه وحده الأمور.
فإلى أين يولّى المشركون وجوههم، إذا هم صرفوها عن اللّه؟ إنه لا وجه إلا الضلال والخسران! قوله تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.. إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ}.
هو تعقيب على تلك الدعوة التي دعا بها اللّه سبحانه وتعالى عباده إليه بقوله تعالى: {ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ}.
بعد أن بيّن لهم- سبحانه- آيات بينات من دلائل قدرته، وآثار رحمته.. فمن استجاب لهذه الدعوة، وآمن باللّه إلها واحدا لا شريك له، فقد اهتدى إلى طريق الخير والفلاح، ومن كفر فإن اللّه غنىّ عن العالمين، لا ينفعه إيمان من آمن، ولا يضره كفر من كفر. {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [12: لقمان].
{وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} أي لا تحمل نفس وزر نفس أخرى، بل {كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [38: المدثر].
{ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.. إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ} فلا تخفى على اللّه منكم خافية، فيجزى المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.
وهنا أمور:
فأولا: قوله تعالى: {وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ}:
ما معنى رضا اللّه هنا؟ وإذا كان سبحانه لا يرضى شيئا فكيف يقع ما لا يرضاه؟
المراد بالرضا هنا، القبول، ويكون معنى أن اللّه لا يرضى لعباده الكفر، أنه- سبحانه- لا يقبله منهم، لأنه تعالى، طيب، لا يقبل إلا طيبا.. والكفر نجس، وخبث.
ووجه آخر في هذه الآية: وهو أن المراد بالعباد هنا، هم المؤمنون، ولهذا أضافهم للّه سبحانه وتعالى إليه في قوله تعالى: {لعباده}، ويكون معنى الرضا على حقيقته، وهو أن اللّه سبحانه لا يرضى لعباده الذين أراد لهم الإيمان أن يكفروا، فهو سبحانه يهديهم إلى الإيمان، وييسر لهم السبيل إليه- وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} [3: المائدة].
وعلى هذا يكون قوله تعالى: {وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ} دعوة للمؤمنين- وكلهم عباد اللّه- أن يكونوا بالمكان الذي يرضاه اللّه لهم، ويقبله منهم، وأن ينأوا عما لا يرضاه اللّه لهم، فإنهم عباده! وثانيا: قوله تعالى: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ}.
ما المراد بالشكر هنا؟ وهل هو الإيمان المقابل للكفر؟ أم هو أمر آخر وراء الإيمان؟
الشكر هنا- واللّه أعلم- هو أمر مترتب على الإيمان.. وهو مطلوب من المؤمنين الذين هداهم اللّه إلى الإيمان، ويسر لهم سبله.. فكانوا في المؤمنين، ويجب بعد هذا أن يكونوا من الشاكرين، أن هداهم اللّه إلى الإيمان.
وثالثا: ما ذا عن الذين كفروا؟ أرضى اللّه لهم الكفر، وذلك بمفهوم المخالفة لقوله تعالى: {وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ} على أن المراد بعباده هم المؤمنون خاصة؟
الجواب- واللّه أعلم- أن كفر الكافرين وإن كان إرادة للّه سبحانه فيهم، ومشيئة له غالبة عليهم- فإنه مطلوب منهم أن يعملوا إرادتهم، ويحركوا مشيئتهم إلى الإيمان، لأنهم لا يدرون ما إرادة اللّه فيهم ولا مشيئته بهم.. وتلك هى الحجة القائمة عليهم.
أما أن مشيئة اللّه هى النافذة، وإرادته هى الغالبة، فهذا أمر لم يمنع العقلاء من أن يعملوا في كل ميدان من ميادين العمل.. ثم هم صائرون حتما إلى مشيئة اللّه وقدره {لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} [23: الأنبياء].
وهذا هو موضوع قد عرضنا له أكثر من موضع من هذا التفسير، وأفردناه ببحث خاص، تحت عنوان القضاء والقدر.


{وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (9) قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (18)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ}.
خوله نعمة: أي ساق إليه نعمة، وألبسه إياها.. وأصل اللفظ من الخال الذي يزين المرأة.. ومن حق نعم اللّه التي تلبس عباده أن تكون زينة كمال وجمال لهم.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية السابقة عليها، قد حثّت عباد اللّه المؤمنين، على أن يطلبوا رضا اللّه بالشكر له، على ما أنعم عليهم من نعم، أجلّها الإيمان الذي هداهم إليه.
وفى المؤمنين، من لا يشكر اللّه، ولا يؤدى ما لنعم اللّه عليه من واجب الشكر للمنعم.
وفى المؤمنين، من لا يذكر اللّه وهو في حال من النعمة والعافية، ولكن إذا مسّه ضر ضرع إلى ربه، ورجع إليه، ودعاه لكشف الضر عنه.. فإذا استجاب اللّه سبحانه له، وكشف ما به من ضر، نسى هذا الضر الذي كان يدعو اللّه إلى كشفه من قبل، ونسى ربه، وإحسانه إليه.
وهذا الإيمان، على صورته تلك- هو ضرب من النفاق، وصورة من صور المكر باللّه.. واللّه سبحانه وتعالى قد توعد الذين يمكرون بآياته، وفى هذا يقول سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ، خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ.. ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ} [11: الحج].
وقوله تعالى: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا.. إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ} تهديد ووعيد بالعذاب الأليم في الآخرة، لهذا الذي يعرف اللّه في الشدة، وينكره في الرخاء.. فهو في الشدة يعرف ربّا يطرق بابه، وهو في الرخاء لا يعرف وجه ربه.. وفى الأثر: «من عرف اللّه في الرخاء عرفه اللّه في الشدة».
وحسن أن يعرف الإنسان ربه في الشدة، ويفزع إليه، ويطرق باب فضله وإحسانه، ويدعوه لكشف الضر عنه.. فذلك من إيمان المؤمن بربه وثقته فيه، وطمعه في رحمته.
وأحسن الحسن أن يعرف الإنسان ربه في الرخاء، ويسبح بحمده، ويشكر له، ويذكر نعمه وإحسانه إليه.. فذلك إقرار من المؤمن بسلطان ربه، وبقيومته على هذا الملك، وعلى كل ما يجرى فيه.
وذلك هو الإيمان، وتلك هى حال المؤمن حقا، إن أصابه خير حمد وشكر، وإن أصابه ضرّ رضى وصبر، وفى الأنبياء والمصطفين من عباد اللّه الأسوة والقدوة.
والتمتع بالكفر، هو الحياة معه على ذلك الوجه الذي يزين فيه الكفر لأهله، كل منكر، فلا يتقيد صاحبه بأى قيد، ولا يرتبط بأى التزام أدبى، أو خلقى، أو إنسانى، قبل اللّه أو قبل الناس.
فليتمتع الكافر بهذه الحياة البهيمية التي يدعوه إليها كفره.. إنه من أصحاب النار.. وإنه لا بأس أن ينال من يقدّم للقتل ما تشتهى نفسه؟؟
قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ.. إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ}.
أي أهذا الذي يمكر باللّه، فإذا أصابه ضرّ لجأ إليه، وإذا كشف الضرّ عنه نسى ربه، ومرّ كأن لم يدعه إلى ضرّ مسّه- أهذا، أم ذلك الذي هو على ذكر دائم لربه في السراء والضراء جميعا؟.
أهذا الذي لا يذكر ربه إلا عند الشدّة، أم هذا القانت في محراب صلاته بين يدى ربه، القائم في ولاء وخشوع، يقطع الليل ساجدا، وقائما، وهو بين خوف من عذاب اللّه، وطمع في رحمته.. فإذا ذكر عذاب اللّه طلب السلامة من هذا العذاب بالاستغفار، وإذا ذكر رحمة اللّه، أنس بالرجاء في مغفرته ورضوانه فلهج بالحمد والشكر؟.. أيستوى هذا الحامد الشاكر في السّرّاء والضراء، وهذا الجاحد الغافل؟
وفى توقيت القنوت بالليل، إشارة إلى المعاناة التي يجدها المؤمن في طاعة ربه، حيث يهجر النوم بالليل ويقهر سلطانه.. وفى هذا يقول اللّه تعالى: {إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا} [6: المزمل] ويقول سبحانه في الثناء على عبّاد الليل، وما لهم من جزاء عظيم عنده: {كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [17- 18: الذاريات].
وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}.
كان مقتضى السياق أن تجىء المفاضلة بين المؤمن والكافر، أو بين من يذكر اللّه ومن لا يذكره، فيقال مثلا: هل يستوى المؤمنون والكافرون؟ أو هل يستوى من يذكر اللّه ويشكر له، ومن يكفر باللّه ويمكر به؟.
ولكن جاءت المفاضلة بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون، للإشارة إلى أن العلم، هو الذي تقوم عليه قيم الناس، وتثقل أو تخفّ به موازينهم، في أي أمر من أمور الدنيا، أو الدين.
ففى الإيمان باللّه، تكون التفرقة بين المؤمن وغير المؤمن قائمة أساسا على العلم وعدم العلم، فمن آتاه اللّه علما، انكشف له بالعلم الطريق إلى اللّه، فآمن واتّقى.. وإنه بقدر علمه يكون مبلغ إيمانه وتقواه.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ} [28: فاطر].. ومن جهل، فمن أين تأتيه المعرفة بربه؟ ومن أين يقع في قلبه الخشوع لجلاله والولاء لسلطانه، والخشية من بأسه وعقابه، وهو لا يعرف للّه جلالا، ولا سلطانا ولا بأسا؟.
وليس المراد بالعلم هنا، هو العلم النظري التجريدى، وإن كان لهذا العلم خطره وأثره، في توسيع المدارك، وشحذ الملكات، وإنما المراد هو العلم الذي يجلو عمى البصائر، ويرفع الغشاوة عن القلوب.. فهذا العلم هو ثمرة كل علم نافع، وحصيلة كل معرفة طيبة.
وقوله تعالى: {إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ} هو تعقيب على هذا الحكم الذي تضمنه قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} الذي يفرق بين من يعلم ومن لا يعلم.. فمن علم، كان ذا لبّ وفهم، وكان على بصيرة من أمره، فيتذكر ويتدبر، ويهتدى إلى الحقّ، وإلى سواء السبيل.. ومن جهل، كان في ضلال وعمى، فلا يقف عند عبرة، ولا يلتفت إلى موعظة، بل يمضى في طريق الضلالة إلى غايته.
واللّه سبحانه وتعالى يقول: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى.. إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ} [19: الرعد].
قوله تعالى: {قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ.. لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ.. إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ}.
هو نداء من رب كريم إلى عباده الذين آمنوا به، واستجابوا لرسوله، بعد أن سمعوا آيات ربّهم، وعرفوا مواقع الحق منها.. وفى هذا النداء الكريم يستدعيهم ربهم إليه بالتقوى التي تقربهم منه، وتدنبهم من رحمته وإحسانه.
فالإيمان هو أول خطوة إلى اللّه.. والوقوف عند هذه الخطوة تقصير بالإيمان وتعطيل لمعطياته التي كان جديرا بالمؤمن أن يحصل عليها بإيمانه.. والعمل بهذا الإيمان، والغرس في مغارسه هو الذي يحقق للمؤمن الوصول إلى اللّه، وإلى مواقع رحمته ورضوانه.. وفى هذا يقول سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [9: يونس].. فالإيمان مصباح يضىء للمؤمن الطريق إلى ربه.. والعمل الصالح هو الزيت الذي يمدّ هذا المصباح بالوقود الذي تظلّ به شعلته متقدّة مضيئة أبدا.
وقوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ} إشارة إلى أن الأعمال، الحسنة، تعطى ثمرة حسنة معجلة في هذه الدنيا إلى ما تعطيه من حسنات كثيرة في الآخرة.. فالعمل الحسن هو حسن في ذاته، لا يجىء منه إلا ما هو حسن.. وهذا من شأنه أن يضمن للمحسنين حياة طيبة معه في الدنيا- مع صرف النظر- عما يكون له من آثار طيبة فيما وراء هذه الدنيا.. وبهذا.
الحساب يرى المحسنون أنهم غير مغبونين في تعاملهم بالإحسان في دنياهم، وأنهم- وبصرف النظر عن الحياة الأخرى، وبمعزل عنها- ينالون بإحسانهم حياة طيبة، ويجدونها في راحة الضمير، وصفاء النفس، وإن لم يجدوها فيما يحصّلون من متاع مادى، وشهوات عاجلة لا تلبث أن تخمد، فلا يجد المرء لها أثرا.
وفى إفراد كلمة {حسنة} وتنكيرها، إشارة إلى أن ما يجزى به المحسنون بإحسانهم في الدنيا، هو قليل قليل بالإضافة إلى ما يجزون به في الآخرة.
وقوله تعالى: {وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ} إشارة إلى أن المؤمن قد لا يجد في مكان ما سبيلا إلى العمل، وإلى الغرس في مغارس الإحسان، حيث تكون الأرض التي يعيش فيها أرضا خبيثة، لا تمسك ماء، ولا تنبث نباتا.. وهنا ينبغى على المؤمن أن يتحول عن هذه الأرض، إلى غيرها، مما هو طيب صالح.
فأرض اللّه واسعة، وكما أن فيها الخبيث النكد، ففيها الطيب الكريم.
وفى هذا، دعوة للمؤمنين الذين كانوا يعيشون في مكة قبل الهجرة، محاصرين من المشركين، لا يستطيعون أن يعطوا إيمانهم حقه، ولا أن يفجروا ينابيع الخير منه- في هذا دعوة لهم أن يتحولوا عن هذا الموقع من الأرض إلى أرض أخرى، حيث تطيب فيها مغارسهم، وحيث يرفعون مصابيح الهدى التي بين أيديهم، فتملأ الدنيا من حولهم هدى ونورا.. وقد كان، فهاجر المؤمنون إلى المدينة، وفى هذا المكان الطيب من الأرض سطح نور الإسلام، ودخل الناس في دين اللّه أفواجا.
وقوله تعالى: {إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ} دعوة للمؤمنين إلى الصبر، الذي هو ملاك كل أمر يراد منه الخير الكثير الدائم الذي لا ينقطع.
إن كل ثمرة إنما تكون قيمتها بقدر ما يبذل فيها من جهد، وما يحتمل في سبيلها من عناء ومعاناة.. ومن طلب ثمرة بلا عمل، فقد طلب ريّا من سراب! وفى قوله تعالى: {بِغَيْرِ حِسابٍ} إشارة إلى أن جزاء الصبر جزاء عظيم، وأن ميزان العمل الذي يجىء في أعقاب الصبر يرجح جميع الأعمال كلها، حيث ينال الصابر جزاء صبره، ما يشاء من فضل وإحسان، بلا حساب! قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ.. وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} هو بيان لحال النبي في هذه الدعوة التي حملها إلى الناس من ربه، وأنه مأمور من اللّه، بما يأمر اللّه به عباده جميعا.. فهو والناس في هذا الأمر السماوي على سواء، فلا استثناء لأحد في هذا القانون، كما يقع ذلك في القوانين الوضعية، التي ترفع السلطان عن الخضوع للقانون العام الذي تخضع له الرعية.. بل وأكثر من هذا، فإن صاحب الدعوة- صلوات اللّه وسلامه عليه- يتلقى هذه الدعوة من ربه في صورة أمر وإلزام، على حين يتلقاها الناس مجرد دعوة لا إلزام فيها، ولا إكراه معها.. {إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ}.
وفى قوله تعالى: {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} إشارة إلى أن رسول اللّه- صلوات اللّه وسلامه عليه- هو أول المسلمين: خضوعا لسلطان اللّه، وامتثالا لأمره، يسلم إليه وجوده، وتخلص له ولاءه.. وأنه- صلوات اللّه وسلامه عليه- القدوة للمسلمين في طاعة ربه، وفى اتقاء حرماته، وأنه- وهو سلطان المؤمنين- أكثر المؤمنين عبادة للّه، واجتهادا في عبادته، واتقاء لحرماته، وخوفا من عقابه.. إنه عبد من عباد اللّه. وأفضل عباد اللّه، وأكرمهم عنده، وأقربهم إليه، من كان أعرفهم به، وأكثرهم طاعة وولاء له.. فمن أراد من المؤمنين أن يكون أقرب إلى اللّه، فليكن في طاعة للّه، فإنه كلما ازداد طاعة ازداد قربا.
قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} وشأن عباد اللّه في طاعته، شأنهم في معصيته.. فكما أنه من ازداد طاعة للّه، ازداد قربا منه، كذلك من أقام أمره مع اللّه على معصيته، والخروج عن أمره، والاجتراء على محارمه- كلما ازداد معصية للّه، ازداد بعدا عنه، وتعرضا لسخطه وعذابه.. حتى الأنبياء، وحتى سيد الأنبياء، رسول اللّه- صلوات اللّه وسلامه عليه- إنه لو عصى اللّه- وحاشاه- فهو محاسب بهذا الحساب.
وهكذا شريعة اللّه.. وهكذا عدل اللّه: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [31: النجم] قوله تعالى: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي.. فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} هذا هو حال النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- مع ربه.. إنه على العبادة الخالصة للّه، لا يلتفت إلى غيره. ولا يدين لسواه. أما أنتم أيها المشركون فلكم ما تشاءون من معبودات تعبدونها من دون اللّه.. {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [6: الكافرون] فكلّ محاسب بما يدين به، وكل مجزىّ بما يعمل: {لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [25: سبأ] قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ.. أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ} إن العبرة في الريح أو الخسارة، هى في الحساب الختامى، الذي يسوّى فيه حساب الإنسان.. أما هذا الحساب اليومي في هذه الدنيا، فإنه لا يكشف عن المركز الصحيح للإنسان.
هكذا يعرف الناس شئونهم في هذه الدنيا. إنهم يقيمون موازين حياتهم لا على لحظه عابرة، ولا على يوم يعيشون فيه، وإنما ينظرون إلى الغد، وما بعد الغد.. وحياتهم الدنيوية، هذه- لو عقلوا- لحظة من لحظات حياتهم الممتدة إلى ما وراء هذه الحياة، وأنها ليست إلا يوما، أو بعض يوم.. وإنه لضلال مبين أن يقيم المرء حسابه كله على ميزان يوم أو بعض يوم، حتى إذا طلع عليه صح يوم جديد، ولم يكن قد عمل له حسابا، وجد نفسه ولا شيء معه. وهنا يكون الندم، ويكون الخسران.
والخاسرون حقا، هم أولئك الذين أقاموا ميزانهم على هذه الحياة الدنيا، ولم يجعلوا للآخرة حسابا.. إنهم يجيئون إلى الحياة الآخرة، وقد صفرت أيديهم من كل خير يجدونه في هذا اليوم، بل سيجدون ديونا كثيرة هم مطالبون بها، ولا يقدرون على أداء شيء منها، إلا الحبس في جهنم، وفاء لهذه الديون! والسؤال هنا: إذا خسر المجرمون أنفسهم، وأوردوها موارد الهلاك يوم القيامة، فكيف تكون خسارتهم لأهليهم في هذا اليوم؟
والجواب- واللّه أعلم- من وجهين:
الوجه الأول: أن أهل الضلال لا يلتقى بعضهم ببعض يوم القيامة إلا على عداوة وخصام، وإلا على قطيعة ونفور.. كما يقول اللّه تعالى: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ}.
(25: العنكبوت).
فأهل الضلال بعضهم فتنة لبعض، ومن هنا يقع بينهم يوم القيامة هذا الخصام، وتلك العداوة، ومن هنا يلتفت الضالّ، فلا يجد حوله في جهنم إلا وجوها كالحة تلعنه، وترمى إليه بالعداوة، ممن كانوا هم أقرب الناس إليه في الدنيا من أهل وصديق.
والوجه الثاني: أن خسارة الضال لأهله يوم القيامة، هو تفرقهم عنه، فلا يلتقى بهم إذا كانوا في الجنة، أما إذا كانوا في جهنم فإن لقاءه بهم حسرة وبكاء وعويل.. على خلاف لقاء المؤمنين، حيث يجمعهم اللّه بأهليهم، وبإخوانهم من أهل الجنة، فيتضاعف لذلك سرورهم، نعيمهم، كما يقول سبحانه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [21: الطور] وكما يقول سبحانه عن أهل الإيمان: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [70: الزخرف].
قوله تعالى: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ.. ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ.. يا عِبادِ فَاتَّقُونِ} هذا هو الذي يلقاه أهل الضلال في الآخرة تغشاهم النار، وتشتمل عليهم، من فوقهم، ومن تحت أرجلهم.. كما يقول سبحانه:
{لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ} [41 الأعراف] والظلل جمع ظلة، وهى ما يستظل به وفى التعبير عن النار بالظلل، مع أن الظلل يتقى بها وهج الشمس- إشارة إلى أن النار المسلطة على أهل النّار لا تتّقى هناك إلا بنار من النار.
إذا استصرخ أهلها، كان الصريخ لهم بعضا منها، وقطعا من شواظها.
وفى هذا بلاء إلى بلاء، وعذاب إلى عذاب.. حيث تتضاعف البلوى بهذا الطارق الجديد، الذي كان موضع أمل ورجاء.. وفى هذا يقول المتنبئ:
إذا استشفيت من دء بداء *** فأقتل ما أعلّك ما شفاكا
والظلل التي من تحت أهل النار هى نار، يمشون على شواظها، فلا ينتقلون إلا من نار إلى نار، فحيثما وضعوا أرجلهم كانت النار تحتها، فلا ظلّ يمشون عليه إلا هذه النار الجاحمة التي يضعون أقدامهم عليها.
وقوله تعالى: {ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ}.
أي هذا العوض لأهوال جهنّم- أعاذنا اللّه منها- وما يلقى فيها أهلها من هذا العذاب الأليم- هو تحذير من اللّه لعباده، وتخويف لهم من هذا المورد الوبيل، وهم في هذه الدنيا، ليأخذوا لذلك حذرهم، وليعملوا على توقّيه، بالإيمان باللّه واتقاء محارمه، ولهذا جاء قوله تعالى: {يا عِبادِ فَاتَّقُونِ} تعقيبا على هذا التحذير، وإلفاتا إلى طريق السلامة والنجاة من هذا البلاء الراصد، وذلك بتقوى اللّه. فالتقوى هى مركب النجاة من هذا الطوفان الجهنّمى، الذي يحتوى بأمواجه المتلاطمة كلّ من لم يكن في هذا المركب! وفى قوله تعالى: {يا عِبادِ} نداء من رب كريم إلى عباده، ليأخذوا طريقهم إليه سبحانه وتعالى، حيث الأمن والسلامة والنعيم والرضوان.
والفاء في قوله تعالى: {فَاتَّقُونِ} هى فاء الفصيح، والتفريع، وهى تفصح عن كلام محذوف.. أي قد بينت لكم ما ينتظر الذين لا يؤمنون بي، ولا يتقون محارمى، من بلاء شديد وعذاب أليم، فاتقون، أنتم حتى لا تقعوا تحت طائلة نقمتى وعذابى.
قوله تعالى {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ.. لَهُمُ الْبُشْرى.. فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ} هو تعقيب أيضا على هذا العرض الذي عرضت فيه جهنم وأهلها، وما يلقون فيها.
وفى هذا التعقيب بيان شارح للطريق الذي يعدل بالناس عن الطريق الجهنمى، إلى طريق النجاة والفوز بجنات النعيم.
فمن اجتنب الشرك باللّه، وأخلى يديه، وقلبه، من هذه المعبودات المخلوقة للّه، أو المصنوعة بأيدى الناس- من اجتنب هذه المعبودات ابتداء، أو تاب إلى اللّه من بعد شركه، وأخلص للّه عبادته، فله البشرى بالنجاة والفوز برضوان اللّه.
وقوله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} أي أن هذه البشرى بالنجاة والفلاح إنما ينالها عباد اللّه الذين يستضيئون بنور اللّه ويتدبرون ما يقع لأسماعهم من كلمات، فيميزون الخبيث من الطيب، والضلال من الهدى، ثم يؤدّيهم هذا إلى أن يستجيبوا لكل ما هو طيب، وأن يتبعوا كل ما هو هدى ورشاد.. فإنهم إن فعلوا ذلك كانوا من عباد اللّه المهتدين، الذين إذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه، وأخذوا طريقهم المستقيم، السالك بهم إلى جنات النعيم.. ثم كانوا مع هذا- أو قبل هذا- أصحاب عقول، يعيشون بها في صورة بشرية كريمة.
والطاغوت: هو كل ضلال.. وأصله من الطغيان، الذي يعدل بصاحبه عن طريق الحق والخير، إلى متاهات الضلال والهلاك.
وفى التعبير عن الضلال بكلمة {الطاغوت} تشنيع على الضلال، وعرض له في تلك الصورة، التي تتمثل في هذه الأحرف المتنافرة، التي تشكلت منها هذه الكلمة، كما يتشكل الضلال من وجوه الآثام والشرور.
وقوله تعالى: {أَنْ يَعْبُدُوها} مصدر مؤوّل، وقع بدلا من الطاغوت في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ}.
أي اجتنبوا عبادة الطاغوت.
وفى تأنيث الطاغوت، إثارة لمشاعر البغضاء والكراهية، التي عند الجاهليين للأنثى، ليلتقوا بهذه المشاعر مع معبوداتهم، ولينظروا إليها في صورة أنثى يعبدونها، ويخرون للأدقان سجّدا بين يديها.
وهكذا من المتناقضات التي تعيش في عقولهم الفاسدة، إذ كيف يستقيم لذى عقل أن يحقر الأنثى، ويكره وجهها في صورة ابنة هى فلذة من كبده، ثم إذا هو عبد ذليل بين يدى أنثى سوّها بيده من، حجر، أو خشب؟.


{أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (20) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (21) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (26)}.
التفسير:
قوله تعالى: {أَ فَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ}؟.
هو تهديد ووعيد لأولئك الذين استولى الضلال عليهم، فحجب عقولهم عن رؤية النور الذي يشعّ من حولهم، وأصمّوا آذانهم عن داعى الهدى الذي يدعوهم إليه، ليخرجهم مما هم فيه من ضلال.
والخطاب لرسول اللّه- صلوات اللّه وسلامه عليه- وأنه لا يملك أن يردّ قضاء اللّه، في هؤلاء المشركين، الذين حقّت عليهم كلمة العذاب، وأنهم من أصحاب النار، فليدعهم الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- لمصيرهم هذا، بعد أن أعذر إليهم، وبلّغهم رسالة ربه.
وقوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} استفهام يراد به النفي، وهو جواب للشرط قبله.. {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ} أي أفمن حق عليه كلمة العذاب، ينتفع بالهدى الذي بين يديك أيها النبىّ، ويتحول من الشرك إلى الإيمان؟ ذلك محال.. {أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ}؟ إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب.
قوله تعالى: {لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ} هو إشارة إلى أن قضاء اللّه في خلقه، ليس حجة لأهل الضلال على ما هم فيه من ضلال، وأن عليهم أن يعملوا بمعزل عما للّه من مشيئة فيهم، لأنهم لا يدرون ما تلك المشيئة.
فهؤلاء المؤمنون من عباد اللّه، المتقون لحرماته، قد أخذوا بالأسباب التي من شأنها أن تدنيهم من اللّه، وتبلغ بهم منازل رضوانه، دون أن يعلموا مشيئة اللّه فيهم. ولكنهم مع هذا قد أخذوا بالأسباب.. إنهم لم يستسلموا للقدر إلا وهم على طريق العمل.. وهذا هو ما يقضى به العقل.. إن العاقل لا يلقى بنفسه بين مخالب حيوان مفترس، أو يضع يده في فم حيّة.
بل إنه ليفر من وجه هذا الخطر، وإن كان هذا لا يمنع القدر المقدور له!.
إن الجنة لا يدخلها إلا مؤمن.. فمن كان على غير الإيمان، وطلب الجنة فقد غبن نفسه، وأضلّها وغرّر بها.. فليطلب المرء رضوان اللّه من بابه، وهو الإيمان.. ثم يدع ما وراء ذلك، فإن كان ممن أراد اللّه لهم الهدى والرشاد، أذن له بالدخول، ووفّقه للعمل الصالح، وإن كان ممن أراد اللّه له الضلال والشقاء، حجبه عنه، وحلّى بينه وبين ما هو فيه من ضلال!.
إن المرء لا يحاسب على إرادة اللّه فيه، وإنما يحاسب على إرادته هو لنفسه، على ما تجرى عليه أموره في الدنيا.. فهو إن سرق أخذ بجريرة السرقة، وإن قتل أخذ بمن قتل.. وهكذا.. إن العقل يقضى بأن يسأل الإنسان نفسه إزاء كل أمر يعرض له: ماذا أريد، لا ماذا يريد اللّه بي، أولى؟ لأنه يعرف يقينا ما ذا يريد هو، ولا يعرف قطعا ماذا يريد اللّه به، أوله.
وفى وصف الغرف بأنها مبنية- إشارة إلى أنها ثابتة، تطيب فيها الحياة بالسكن والاستقرار. وأنها ليست خياما مضروبة، لا يستقر المقيم فيها إلا ريثما يتحول بها إلى أماكن أخرى.
ونعود مرة، بعد مرة، لنقرر أن هذه الصور التي لنعيم الجنة، مما هو من حياة البادية ومطالب النفس فيها- هذه الصور، هى مما يشتهيه أهل الجنة الذين حرموا منه في دنياهم، وقصرت أيديهم عن تناوله، فهى بالنسبة للمحرومين منها نعيم عظيم، لا يكمل نعيمهم إلا بتحقيقه، وإن كان لا يعدّ شيئا إلى ما في الجنة من ألوان النعيم.
وقوله تعالى: {وَعْدَ اللَّهِ} منصوب على الإغراء، أي انتظروا وعد اللّه، أو صدّقوا وعد اللّه.
قوله تعالى: {أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ}.
هو عرض لقدرة اللّه، وتذكير بآلائه، ونعمه على عباده.
فهذا الماء، ينزل من السماء بقدرة القادر، ثم يأخذ مسالكه في ظاهر الأرض، وباطنها، فيكون على ظهر الأرض جداول وأنهارا، ويكون في باطنها شرايين، تتجمع، ثم تتفجر منها العيون، ومن ماء الأنهار والعيون، يخرج الزرع مختلف الألوان، والثمار.. وهذا الزرع يأخذ دورة في الحياة كدورة الكائن الحي، ينتقل من طور الطفولة إلى الشباب، فالكهولة، فالشيخوخة، فالموت.
وهيجان النبات: فورانه، وبلوغ أشدّه.. أشبه بفوران الشباب وهيجانه.
وفى العطف بالفاء في قوله تعالى: {فَتَراهُ مُصْفَرًّا}.
إشارة إلى قصر الزمن بين شباب الزرع وشيخوخته.
وفى العطف بثم في قوله تعالى: {ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً} إشارة إلى الزمن بين اصفرار النبات، وجفاف ماء الحياة منه، وهو زمن أطولبالنسبة إلى الزمن بين هيجانه واصفراره.
والحطام: القطع المحطمة من كلّ شيء قابل للكسر.. مثل حطام الآنية، أو قطع الخشب ونحوها، وهذا ما يكون من النبات بعد أن يجفّ وييبس.
وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ}.
إشارة إلى أن هذه المشاهد التي تعرضها الآية الكريمة لقدرة اللّه، لا يراها، ولا يذكر ما فيها من دلالات دالة على تلك القدرة، إلّا أصحاب العقول السليمة، التي لم يغطّ عليها الجهل والضلال.
قوله تعالى: {أَ فَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ.. فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ. فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}.
جواب الشرط (من) محذوف دل عليه المقام، وتقديره: أيستوى من شرح اللّه صدره للإسلام، فأشرقت نفسه بنور الحق، واستبان له الطريق إلى اللّه، ومن ختم اللّه على قلبه، فلم يقبل ما ساق اللّه إليه من نور، فضلّ سواء السبيل؟ وهذا مثل قوله تعالى: {أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ} [14: محمد].
قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ}.
تهديد ووعيد لهؤلاء المشركين الضالين، الذين إذا ذكرّوا بآيات ربّهم اشمأزّوا ونفروا.
وهذا هو بعض السر في تعدية اسم الفاعل قاسية بحرف الجرّ {من} وذلك لتضمنه معنى نافرة، أي فويل للنافرة قلوبهم من ذكر اللّه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}:
(45: الزمر).
قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ}.
هو إلفات إلى نعمة جليلة من نعم اللّه، إلى جانب ما ينزل سبحانه من نعم.. فهو سبحانه الذي أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها، وأخرج منها حبّا ونباتا، تغتذى منه الأجسام، وإنه يغير هذا الماء، وبما يخرج من الأرض من ثمرات، لا يكون للإنسان ولا لكائن حىّ حياة.
ثم هو سبحانه بعد أن كفل للإنسان حياته، وللجسم حاجته- أنزل له من السماء ما يحيا به الجانب الروحىّ منه.. فالإنسان ليس جسدا وحسب، مثل سائر الأحياء، وإنما هو جسد وروح، وهو بهذا الجسد وحده حيوان، ولا تتحقق إنسانيته إلا بالجسد والروح معا.
وقوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ}.
هو بيان للغذاء الروحي الذي أنزله اللّه، وهو القرآن الكريم.. إنه حديث اللّه إلى عباده، وكلماته إليهم.. فأى حديث أحسن من حديث اللّه؟ وأي كلام أكرم وأطيب من كلامه؟.
وقوله تعالى: {كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ}.
هو بدل من قوله تعالى: {أَحْسَنَ الْحَدِيثِ}.
وهو وصف لأحسن الحديث، وبيان له.. فأحسن الحديث، هو هذا الكتاب، أي القرآن الكريم، وهو كتاب متشابه في جلال قدره، وعلوّ منزلته، وسموّ معانيه.. إنه الحق في آياته وكلماته.. فهو على درجة واحدة في كماله وجلاله، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً}: (82: النساء).
والمثاني: جمع مثنى، وذلك بما فيه من بيان للأمور وأضداد.
كالإيمان والكفر، والحق والباطل، والهدى والضلال، والخير والشر، والحسنات والسيئات، والجنة والنار.. والقرآن الكريم في الحالين، هو على مستواه العالي من الكمال والجلال.. فالحديث عن الكفر مثلا، معجز إعجاز الحديث عن الإيمان، لأن هذا وذك من كلام اللّه.
وقوله تعالى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ}.
الاقشعرار، والقشعريرة، حال تعترى الجسد من أثر رهبة أو خوف، فيموج الجلد بموجات أشبه بمسّة الكهرباء.
واقشعرار جلود الذين يخشون ربّهم من هذا الحديث المنزل من عند اللّه، هو لما يقع في قلوبهم من رهبة وجلال لما يسمعون من كلام اللّه، الذي يقول اللّه سبحانه وتعالى فيه: {لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [21: الحشر]. فإذا نزل هذا القرآن على القلوب المؤمنة اهتزت لجلاله، وزلزلت أقطارها لرهبته.. أما غير المؤمنين، الذين لا يعرفون اللّه ولا يقدرونه قدره، فلا تلمس قلوبهم نفحة من آيات اللّه، ولا تصوبها قطرة من سماء كلماته.
وقوله تعالى: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ} إشارة إلى حال أخرى من أحوال المؤمنين الذين يخشون ربّهم في لقائهم مع آيات اللّه.
إنهم في أول لقائهم مع آيات اللّه، وفى مفتتح كلّ اسّماع إليها، تغشاهم حال من الخوف والرهبة، فتقشعرّ لذلك جلودهم.. ثم إذا هم أطالوا النظر في آيات اللّه، وامتدّ جلوسهم في حضرتها، أخذ هذا الخوف وتلك الراهبة يزايلانهم شيئا، شيئا، حيث تعلوهم السكينة وتظللهم الطمأنينة ويغشاهم الأنس، فتسكن قلوبهم الواجفة، وتهدأ أوصالهم الراجفة، وإذا جلودهم التي علتها أمواج القشعريرة، وشدّتها رعدة الخوف، قد استرخت ولانت! وفى تعدية الفعل {تلين} بحرف الجرّ إلى- إشارة إلى تضمين الفعل معنى الميل، بمعنى أن قلوبهم تميل وتهفوا إلى مواصلة الحياة مع كتاب اللّه.
وقوله تعالى: {ذلِكَ هُدَى اللَّهِ} الإشارة إلى القرآن الكريم، وأنه هدى اللّه، الذي أنزله على رسوله، ليكون هدى للعالمين.
وقوله تعالى: {يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ}.
أي أن هذا الهدى لا يهتدى به إلّا من وفّقه اللّه، وشرح صدره للإيمان.
وقوله تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ}.
أي أمّا من أضلّه اللّه وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة- فلن يهتدى أبدا، ولن تجدى معه الحجج التي تساق إليه.. {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً} [17: الكهف] قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ.. وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ}.
أي أفمن يلقى في جهنم فيتقيها بوجهه، كمن عافاه اللّه من هذا البلاء، وقيل له ادخل؟ الجنة كلّا.. {لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ.. أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ} [20: الحشر].
وقوله تعالى: {وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} معطوف على محذوف، هو بيان لحال المؤمنين الذين اتقوا سوء العذاب بإيمانهم، فقيل لهم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون، {وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ}.
وفى اتقاء العذاب ودفعه بالوجه، إشارة إلى شدّة هذا العذاب، حتى أن الوجه الذي تقوم جوارح الإنسان على حراسته ودفع الأذى عنه، يصبح هو لذبّة التي يذبّ بها هذا العذاب.
قوله تعالى: {كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ}.
هو مواجهة للمشركين بما ينتظرهم من عذاب مباغت، يطلع عليهم من حيث لا يشعرون، كما وقع ذلك للذين كذبوا رسل اللّه من قبلهم.. فتلك هى عاقبة المكذبين، ولن يفلت هؤلاء المشركون من هذه العاقبة.
قوله تعالى: {فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ}.
هو بيان للعذاب الذي حلّ بالمكذبين.. إنه عذاب في الدنيا، بما أصابهم في أنفسهم وأهليهم وأموالهم، وعذاب في الآخرة، حيث تكون النار مأواهم.. وهذا العذاب الأخروى أكبر من كل عذاب يراه الناس في هذه الدنيا.. ولكن المكذبين في غفلة من هذا، فهم لا يعلمون سوء هذا المصير الذي ينتظرهم.

1 | 2 | 3 | 4